يرتبط التسمم بالرصاص غالبا بروما القديمة، حيث كانت أفراد الطبقة الثرية يصابون غالبا بحالات من المغص وأوجاع في الرأس والعقم وفقر في الدم، وكانوا يجهلون سبب ذلك .
ومن المعروف أن هؤلاء كانوا يكثرون من استخدام الأواني المعدنية المحتوية على نسبة عالية من الرصاص إلى درجة أن البعض يرى أن من أسباب انهيار الدولة الرومانية تلوث البيئة بالرصاص .
وقد ارتبط اسم هذا المرض بكوكب زحل الذي كان يرمز إلى عنصر الرصاص عند كيميائيي العصور الوسطى .
واليوم لم يزل هذا المرض يمثل مشكلة حقيقية على مستوى الصحة العامة خاصة أن الأطباء لم يتوصلوا إلى علاج ناجع له .
الواقع أن الأطفال هم من أكثر الأشخاص الذين يتعرضون إلى حالة التسمم بالرصاص خاصة إذا كانوا يقطنون في منازل قديمة أو مهدمة يحتوي طلاؤها على كمية كبيرة من أملاح الرصاص .
وفي العادة يستنشق هؤلاء الأطفال الغبار أو يلعقون بقايا من الطلاء المتساقط نظرا لمذاقه الحلو .
ويقول الأطباء إن ما بين 40-50% من الرصاص يدخل مباشرة إلى الدم عند الأطفال مقابل 5-10% عند البالغين .
وتشير التقارير إلى أن2.1 % من الأطفال في بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا والذين تتراوح أعمارهم مابين 1-6 سنوات، يعانون من احتواء دمائهم على نسبة من الرصاص تزيد عن 100ميكروجرام / ليتر وأن أغلب هؤلاء يصلون إلى مرحلة الوفاة أو التخلف العقلي أو الإصابة بأمراض الأنيميا (فقر الدم) .
وفي الآونة الأخيرة اكتشف الباحثان الفرنسيان أوليفيه باريسل وكريستوف جورلاوون اللذان يعملان في مجال فيزياء الكم والكيمياء الحيوية الجزيئية في مختبر بيير ومدام كوري التابع لجامعة باريس السادسة، السبب الحقيقي الذي يجعل من عنصر الرصاص مادة عالية السمية وهو ما يعتبر بمثابة الظاهرة النادرة في مجال العلوم .
وقد اضطر الباحثان إلى الخوض في غمار الذرة وصولا إلى التركيب الكيميائي الحيوي لهذا المعدن بغية الرد على تساؤل حير العلماء لفترة طويلة وهو: ما الذي يجعل الرصاص عنصرا ساما؟
وقد توصل الباحثان إلى نتيجة مفادها أن زوجا من الإلكترونات يكفي لتغيير حالة أجسامنا رأسا على عقب وذلك لمعالجة حالات التسمم بالرصاص فكيف يتم ذلك؟
أيون الرصاص المشوِّش
من الناحية النظرية لا علاقة للطبيعة المعدنية (الفلزية) للرصاص بسميته، لأن بنية أجسامنا في طبيعتها تتقبل بعض المعادن كالحديد والنحاس والزنك فهي تكون 01,0% من كتلة الجسم، بل إن منها ما هو ضروري لعمله بطريقة سليمة وصحية .
وتدخل المعادن الثلاثة المذكورة آنفا، في تركيب البروتينات المسماة بالبروتينات المعدنية وذلك على هيئتها الأيونية بمعنى أنها جزيئات ينقصها إلكترونات، ويرمز لها عادة في علم الكيمياء على النحو التالي: (Zn2+، Fe2+،Cu2+)، كما يرمز للرصاص بهيته الأيونية على الشكل Pb2+، إلا أنه لا يلعب دورا فسيولوجيا حميدا بل على العكس تماما، فهو يعتبر أيونا مشوّشا للبروتينات المعدنية لا سيما لإنزيم يسمى اختصارا ب ALAD والذي يساهم بشكل أساسي في تصنيع هيموجلوبين الكريات الحمر .
ومن المعروف أن هذا الإنزيم يحوي داخله أيون الزنك Zn 2+، وعند التعرض للتسمم بالرصاص، فإن أيون الرصاص Pb2+ يحل محل أيون الزنك ونتيجة لذلك فإنه يمنع تشكل ال ALAD وبالتالي يتعرض المرء لحالة فقر دم شديد .
وينطبق السيناريو السابق على إنزيم الكالموليدين الذي ينظم معدلات الكالسيوم في الجسم، إذ يقوم الرصاص بإزاحة او طرد أيونات الكالسيوم Ca2+ ويعطل عملها بشكل جزئي .
ويمكن القول أن كل ما ذكر آنفا يتعلق بالتفسير الفسيولوجي للحالة، أما عن التفسير الكيميائي الحيوي فلا يبدو أنه قادر على إضافة المزيد بخصوص دور الرصاص على المستوى الجزيئي، ولذا يعتقد الباحثون أن الإجابة على ذلك ربما تكمن في فيزياء الكم!
التفسير الكمومي
هنا لن ندخل في غمار هذه الفيزياء بل سنعرج على فرع من العلم مرتبط بها وهو الكيمياء الحيوية غير العضوية الذي ظهر قبل عشرين سنة فقط . ويعنى هذا الفرع بالنمذجة العملية والنظرية للمركبات المعدنية المتواجدة في الأجسام الحية . ويعتبر الباحثان أوليفيه باريسل وكريستوف جورلاوون من جامعة باريس السادسة رائدان في هذا الفرع من العلوم بل هما من توصل إلى هذا الاكتشاف . وكان الباحثان اعتمدا على أجهزة حاسوب فائقة التطور والقوة بغية إظهار البنية الذرية لإنزيمي الكالموليدين والALAD آخذين بالاعتبار السحابة الالكترونية التي تحيط بكل نواة ذرية وأيون معدني (فلزي)، فما السبب وراء ذلك؟ يقول الباحثان باريسل وجورلاوون إن السحابة الالكترونية قادرة على التفاعل والتأثير في البنية الهندسية لهذه الإنزيمات، وهنا لا بد أن نلجأ إلى ما يسمى بميكانيكا الكم التي تعني بالعالم فائق الصغر، أي الذي ينظم الترتيب الالكتروني لهذه السحب المحيطة بالأنوية .
ويقول الباحثان إن الالكترونات ليست موزعة بطريقة عشوائية في الأفلاك الذرية الدائرية المحيطة بالنواة، بل هي مرتبة على هيئة أزواج . وتشكل هذه الأزواج روابط مع الذرات الأخرى لتكوين الروابط الجزيئية . وتؤثر كل واحدة من هذه الروابط في الروابط الأخرى بقوة تنافركهربية للتقليل من قيم هذه القوى، ولذا فإن أزواج الالكترونات تتوزع بطريقة متجانسة حول النواة .
وبالعودة إلى أيون الرصاص Pb2+ الذي يوجد في أفلاكه الذرية 82 إلكترونا، نجد أن هذا الأيون يشذ أحيانا عن القاعدة، لنجد أن الالكترونين المتواجدين على مداره الذري الأخير، يكوِّنان زوجا حرا، ولا يدخلان في أية رابطة مع أية ذرة أخرى .
ويقول الباحث أوليفيه باريسل: كل الأمر السابق يعتمد على بيئة أيون الرصاص، فعندما يرتبط هذا الأيون بأكثر من ست ذرات أخرى، يكون هناك مراعاة للتماثل الإلكتروني حول النواة، أما إذا تم الارتباط مع أقل من ستة روابط، فإن زوج الالكترونات الحر، يميل إلى الاستحواذ على أي مكان يمكنه أن يحتله لينظم بنية التركيب الكيميائي للرصاص بطريقة تمكنه من تفريغ مكان إضافي آخر . وإذا كانت الكيمياء قد فسرت هذا الأمر من الناحية النظرية، إلا إنها لم تثبته عمليا، ولذا كان ثمة حاجة إلى استخدام النمذجة بواسطة الكمبيوتر لرؤية ما يحدث بالفعل داخل هذا الإنزيم عندما تحل أيونات الرصاص محل أيوناته . ففي حالة إنزيم الكالموديلين، فإن أيون الرصاص يستقر على الذرات السبع التي تغطي قلب الإنزيم . ولكي يتمكن زوج الالكترونات الحر من الاستحواذ على مكان، يتوجب على الإنزيم أن يضبط نفسه ويغير شكله، ولذا فإن الإنزيم يتعرض للتشويش جراء هذا التغير وربما يفقد فعاليته . وربما تبدو الظاهرة أشد وضوحا ودهشة في حالة إنزيم ال ALAD حيث يرتبط الرصاص بثلاث ذرات فقط حيث يستفيد زوج الالكترونات الحر من نصف الحيز الذي استحوذ عليه للانتشار .
ويشير الباحث باريسل في هذا الصدد إلى أن الدرع الالكترونية تعمل على طرد القاعدة الأساسية الطبيعية للبروتين وتمنعه من الاستقرار في موقعه الإنزيمي وبالتالي يصبح الإنزيم غير قادر على القيام بوظيفته البيولوجية المنوطة به . ومن هنا يتبين لنا أن سمية الرصاص تكمن في وجود هذا الزوج الالكتروني وفي قدرته على تغيير شكله وطرد الذرات التي تجاوره .
والدليل على ذلك أن هذه الدرع الالكترونية هي خاصة بالرصاص نفسه لأنها لا توجد لا في الكالسيوم ولا في الزنك .
تخليص الجسم من الرصاص
والآن هل سيفتح هذا الاكتشاف الباب عل مصراعيه من اجل التوصل إلى علاج ناجع لمرض التسمم بالرصاص؟
في هذا الصدد، يقول الباحثان إنهما عازمون على تحضير أحد العوامل الكيميائية القادرة على تخليص الجسم من الرصاص وهو ما يسميانه (بالكلابات) نظرا لأن شكله الذري في الفضاء يشبه كلابات السلطعون . ويقول الباحثان إن مثل هذه العوامل مستخدمة في الطب أصلا إلا انها في أغلب الأحيان ليست انتقائية بدرجة كافية لتخليص الجسم من الرصاص، لأنها تأخذ في طريقها الكاتيونات الفلزية (أيونات الشحنة الموجبة) الضرورية لجسم الإنسان .
ويرى الباحثان أنه في حالة اللجوء إلى العلاج بالطريقة السابقة، فإنه يتوجب على المريض اتباع حمية غنية بالمواد المحتوية على معادن قادرة بدورها على تخليص الجسم من الرصاص بشكل خاص .
أما عن الرهان الذي يسعى الباحثان إلى كسبه، فيتمثل في زيادة خصوصية العوامل الكيميائية (الكلابات) إزاء الرصاص دون الإفراط في استثارة النشاط المدمر للدرع الالكترونية .
ولبلوغ هذا الهدف لا بد من ترك كيمياء الكم جانبا والعودة إلى تجارب المختبرات ليلتقي في النهاية علمي الكيمياء والأحياء .
الرصاص في حياتنا العملية
الرصاص معدن لين مرن لونه أبيض مزرق قابل للتشكل والطرق، وهو موصل ردئ للحرارة ومقاوم للتآكل . وتحتوي خاماته عادة على عناصر الكبريت والزنك والنحاس ومن أهمها وجودا في الطبيعة خام جالينا Gale na الذي يتركب من كبريتيد الرصاص والذي يستخدم في طلاء المرايا، كما يستخدم كصبغة زرقاء .
ويوجد الرصاص في صور أخرى مختلفة منها أكاسيد الرصاص، وتشمل: أول أكسيد الرصاص وهو أكثرها استخداما في صناعات الرصاص غير العضوية وفي تصنيع ألواح البطاريات وصناعة السيراميك والزجاج، وأكسيد الرصاص الأحمر وهو صبغة حمراء لامعة تستخدم في طلاءات المنازل وأسطح المعادن لمنع تآكلها وفي التشحيم وفي صناعة الزجاج والكريستال .
ومن أملاح الرصاص أيضا، كبريتات الرصاص وهي تدخل في صناعة الصبغات الزرقاء والبيضاء، وسليكات الرصاص وتستخدم في الأصباغ وفي صناعة الزجاج والسيراميك والمطاط، وكرومات الرصاص التي تستخدم في الأحبار والصبغات والصناعات الجلدية .
مما سبق يتضح أن الإستخدام الواسع للرصاص ومركباته، تنتج عنها تلوثات كبيرة للبيئة، وحاليا فإن المصدر الأول لتلوث مياه الشرب بالرصاص، يرجع إلى تآكل الوصلات الرصاصية بشبكة المياه، لذا ينصح عند فتح صنابير المياه عدم استخدام الماء المتدفق أولا للشرب أو لتحضير الطعام حيث إن ما يتدفق أولا من مياه الصنبور يحتوي على تركيز مرتفع من الرصاص . ومن مصادر التلوث بالرصاص، تلك الناتجة عن عمليات التعدين والحفر في المناجم وعمليات صهر الرصاص وتصنيعه لعمل مواسير المياه والصرف الصحي والوصلات المختلفة، وكذلك في عمليات اللحام خاصة عند حفظ الأغذية في صفائح أو بالتعليب .
ويدخل الرصاص كذلك في صناعة كثير من الأدوات الصحية وفي كثير من أصباغ الشعر ومساحيق التجميل وأحبار الطباعة وأقلام الرصاص وبعض المبيدات، وأخطرها أصباغ لعب الأطفال .
وقد كانت معظم مود الطلاء في المنازل حتى عام 1960 تحتوي على عنصر الرصاص لكن بعد أن عرفت خطورته على صحة الإنسان تم استبدالها بصبغات أخرى حيث منعت بعض الدول استخدام الرصاص في طلاءات المنازل . ويدخل الرصاص أيضا في تركيب الكثير من الأجهزة المنزلية، كالأجهزة الإلكترونية (تليفزيونات وراديوهات ومسجلات وأجهزة فيديو) حيث يكثر وجوده في لوحات الدوائر الاكترونية وفي الزجاج الرصاصي لشاشات التليفزيون . وجميع هذه الأشياء عندما تستهلك فإنها تلقى في مقالب القمامة وتكون أحد مصادر التلوث بالرصاص .
ومن ملوثات الجو الرئيسة في المدن، رابع ميثيل الرصاص ورابع إيثايل الرصاص اللذان يضافان إلى وقود السيارات منذ حوالي 70 سنة لتحسين كفاءة الوقود في إدارة المحركات .
ويمثل الرصاص الخارج من عوادم السيارات، والذي يكون غالبا على صورة بروميد الرصاص، أكبر ملوث لجو المدن ذات الكثافة العالية في السيارات . ويبقى الرصاص الخارج من العادم عالقا في الجو لمدة طويلة.
وقد اتجهت كثير من الدول إلى استبدال الرصاص الموجود في البنزين بمواد أخرى أقل ضررا على البيئة، وفي الوقت نفسه تحسن أداء البنزين من خلال رفع قيمة الرقم الأوكتيني للبنزين .
ويدخل الرصاص إلى جسم الإنسان عن طريق الجهاز التنفسي مع التنفس والجهاز الهضمي مع الطعام والشراب، ومن خلالهما يصل إلى الدم ويصل بعد ذلك إلى المخ ويترسب في العظام والأسنان وقد يحدث تلفا شديدا للكلى والكبد والمخ والجهاز العصبي المركزي والجهاز العصبي المحيطي .
ويصاحب التسمم بالرصاص حدوث تقلصات في البطن مصحوبة بآلام شديدة وقد يحدث مغص كلوي وصعوبة في التخلص من حمض البوليك والإصابة بالنقرس .
ونظرا لدخول الرصاص في أحبار طباعة الصحف فإنه ينصح بعدم استخدام ورق الصحف في تغليف المواد الغذائية أو في امتصاص الزيت الزائد بعد قلي الخضراوات كما في حالتي البطاطس والباذنجان كما ينصح بغسل الأيدي جيدا بعد قراءة الصحف . من كل ما سبق، يتضح لنا خطورة التلوث بالرصاص وأهمية تنقية الماء والهواء والغذاء من مصادر التلوث به، ويمكن ذلك باستبدال شبكات المياه الرصاصية والوصلات الرصاصية ببدائل آمنة وعدم استخدام الرصاص في لحام صفائح ومعلبات الطعام واستبدال الطلاء المحتوي على الرصاص بمواد أخرى مأمونة ومنع إضافة الرصاص لوقود السيارات . علماً بأن الحد الأقصى المسموح به من الرصاص في مياه الشرب هو 0.50 مللي جرام/ ليتر.
ومن المعروف أن هؤلاء كانوا يكثرون من استخدام الأواني المعدنية المحتوية على نسبة عالية من الرصاص إلى درجة أن البعض يرى أن من أسباب انهيار الدولة الرومانية تلوث البيئة بالرصاص .
وقد ارتبط اسم هذا المرض بكوكب زحل الذي كان يرمز إلى عنصر الرصاص عند كيميائيي العصور الوسطى .
واليوم لم يزل هذا المرض يمثل مشكلة حقيقية على مستوى الصحة العامة خاصة أن الأطباء لم يتوصلوا إلى علاج ناجع له .
الواقع أن الأطفال هم من أكثر الأشخاص الذين يتعرضون إلى حالة التسمم بالرصاص خاصة إذا كانوا يقطنون في منازل قديمة أو مهدمة يحتوي طلاؤها على كمية كبيرة من أملاح الرصاص .
وفي العادة يستنشق هؤلاء الأطفال الغبار أو يلعقون بقايا من الطلاء المتساقط نظرا لمذاقه الحلو .
ويقول الأطباء إن ما بين 40-50% من الرصاص يدخل مباشرة إلى الدم عند الأطفال مقابل 5-10% عند البالغين .
وتشير التقارير إلى أن2.1 % من الأطفال في بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا والذين تتراوح أعمارهم مابين 1-6 سنوات، يعانون من احتواء دمائهم على نسبة من الرصاص تزيد عن 100ميكروجرام / ليتر وأن أغلب هؤلاء يصلون إلى مرحلة الوفاة أو التخلف العقلي أو الإصابة بأمراض الأنيميا (فقر الدم) .
وفي الآونة الأخيرة اكتشف الباحثان الفرنسيان أوليفيه باريسل وكريستوف جورلاوون اللذان يعملان في مجال فيزياء الكم والكيمياء الحيوية الجزيئية في مختبر بيير ومدام كوري التابع لجامعة باريس السادسة، السبب الحقيقي الذي يجعل من عنصر الرصاص مادة عالية السمية وهو ما يعتبر بمثابة الظاهرة النادرة في مجال العلوم .
وقد اضطر الباحثان إلى الخوض في غمار الذرة وصولا إلى التركيب الكيميائي الحيوي لهذا المعدن بغية الرد على تساؤل حير العلماء لفترة طويلة وهو: ما الذي يجعل الرصاص عنصرا ساما؟
وقد توصل الباحثان إلى نتيجة مفادها أن زوجا من الإلكترونات يكفي لتغيير حالة أجسامنا رأسا على عقب وذلك لمعالجة حالات التسمم بالرصاص فكيف يتم ذلك؟
أيون الرصاص المشوِّش
من الناحية النظرية لا علاقة للطبيعة المعدنية (الفلزية) للرصاص بسميته، لأن بنية أجسامنا في طبيعتها تتقبل بعض المعادن كالحديد والنحاس والزنك فهي تكون 01,0% من كتلة الجسم، بل إن منها ما هو ضروري لعمله بطريقة سليمة وصحية .
وتدخل المعادن الثلاثة المذكورة آنفا، في تركيب البروتينات المسماة بالبروتينات المعدنية وذلك على هيئتها الأيونية بمعنى أنها جزيئات ينقصها إلكترونات، ويرمز لها عادة في علم الكيمياء على النحو التالي: (Zn2+، Fe2+،Cu2+)، كما يرمز للرصاص بهيته الأيونية على الشكل Pb2+، إلا أنه لا يلعب دورا فسيولوجيا حميدا بل على العكس تماما، فهو يعتبر أيونا مشوّشا للبروتينات المعدنية لا سيما لإنزيم يسمى اختصارا ب ALAD والذي يساهم بشكل أساسي في تصنيع هيموجلوبين الكريات الحمر .
ومن المعروف أن هذا الإنزيم يحوي داخله أيون الزنك Zn 2+، وعند التعرض للتسمم بالرصاص، فإن أيون الرصاص Pb2+ يحل محل أيون الزنك ونتيجة لذلك فإنه يمنع تشكل ال ALAD وبالتالي يتعرض المرء لحالة فقر دم شديد .
وينطبق السيناريو السابق على إنزيم الكالموليدين الذي ينظم معدلات الكالسيوم في الجسم، إذ يقوم الرصاص بإزاحة او طرد أيونات الكالسيوم Ca2+ ويعطل عملها بشكل جزئي .
ويمكن القول أن كل ما ذكر آنفا يتعلق بالتفسير الفسيولوجي للحالة، أما عن التفسير الكيميائي الحيوي فلا يبدو أنه قادر على إضافة المزيد بخصوص دور الرصاص على المستوى الجزيئي، ولذا يعتقد الباحثون أن الإجابة على ذلك ربما تكمن في فيزياء الكم!
التفسير الكمومي
هنا لن ندخل في غمار هذه الفيزياء بل سنعرج على فرع من العلم مرتبط بها وهو الكيمياء الحيوية غير العضوية الذي ظهر قبل عشرين سنة فقط . ويعنى هذا الفرع بالنمذجة العملية والنظرية للمركبات المعدنية المتواجدة في الأجسام الحية . ويعتبر الباحثان أوليفيه باريسل وكريستوف جورلاوون من جامعة باريس السادسة رائدان في هذا الفرع من العلوم بل هما من توصل إلى هذا الاكتشاف . وكان الباحثان اعتمدا على أجهزة حاسوب فائقة التطور والقوة بغية إظهار البنية الذرية لإنزيمي الكالموليدين والALAD آخذين بالاعتبار السحابة الالكترونية التي تحيط بكل نواة ذرية وأيون معدني (فلزي)، فما السبب وراء ذلك؟ يقول الباحثان باريسل وجورلاوون إن السحابة الالكترونية قادرة على التفاعل والتأثير في البنية الهندسية لهذه الإنزيمات، وهنا لا بد أن نلجأ إلى ما يسمى بميكانيكا الكم التي تعني بالعالم فائق الصغر، أي الذي ينظم الترتيب الالكتروني لهذه السحب المحيطة بالأنوية .
ويقول الباحثان إن الالكترونات ليست موزعة بطريقة عشوائية في الأفلاك الذرية الدائرية المحيطة بالنواة، بل هي مرتبة على هيئة أزواج . وتشكل هذه الأزواج روابط مع الذرات الأخرى لتكوين الروابط الجزيئية . وتؤثر كل واحدة من هذه الروابط في الروابط الأخرى بقوة تنافركهربية للتقليل من قيم هذه القوى، ولذا فإن أزواج الالكترونات تتوزع بطريقة متجانسة حول النواة .
وبالعودة إلى أيون الرصاص Pb2+ الذي يوجد في أفلاكه الذرية 82 إلكترونا، نجد أن هذا الأيون يشذ أحيانا عن القاعدة، لنجد أن الالكترونين المتواجدين على مداره الذري الأخير، يكوِّنان زوجا حرا، ولا يدخلان في أية رابطة مع أية ذرة أخرى .
ويقول الباحث أوليفيه باريسل: كل الأمر السابق يعتمد على بيئة أيون الرصاص، فعندما يرتبط هذا الأيون بأكثر من ست ذرات أخرى، يكون هناك مراعاة للتماثل الإلكتروني حول النواة، أما إذا تم الارتباط مع أقل من ستة روابط، فإن زوج الالكترونات الحر، يميل إلى الاستحواذ على أي مكان يمكنه أن يحتله لينظم بنية التركيب الكيميائي للرصاص بطريقة تمكنه من تفريغ مكان إضافي آخر . وإذا كانت الكيمياء قد فسرت هذا الأمر من الناحية النظرية، إلا إنها لم تثبته عمليا، ولذا كان ثمة حاجة إلى استخدام النمذجة بواسطة الكمبيوتر لرؤية ما يحدث بالفعل داخل هذا الإنزيم عندما تحل أيونات الرصاص محل أيوناته . ففي حالة إنزيم الكالموديلين، فإن أيون الرصاص يستقر على الذرات السبع التي تغطي قلب الإنزيم . ولكي يتمكن زوج الالكترونات الحر من الاستحواذ على مكان، يتوجب على الإنزيم أن يضبط نفسه ويغير شكله، ولذا فإن الإنزيم يتعرض للتشويش جراء هذا التغير وربما يفقد فعاليته . وربما تبدو الظاهرة أشد وضوحا ودهشة في حالة إنزيم ال ALAD حيث يرتبط الرصاص بثلاث ذرات فقط حيث يستفيد زوج الالكترونات الحر من نصف الحيز الذي استحوذ عليه للانتشار .
ويشير الباحث باريسل في هذا الصدد إلى أن الدرع الالكترونية تعمل على طرد القاعدة الأساسية الطبيعية للبروتين وتمنعه من الاستقرار في موقعه الإنزيمي وبالتالي يصبح الإنزيم غير قادر على القيام بوظيفته البيولوجية المنوطة به . ومن هنا يتبين لنا أن سمية الرصاص تكمن في وجود هذا الزوج الالكتروني وفي قدرته على تغيير شكله وطرد الذرات التي تجاوره .
والدليل على ذلك أن هذه الدرع الالكترونية هي خاصة بالرصاص نفسه لأنها لا توجد لا في الكالسيوم ولا في الزنك .
تخليص الجسم من الرصاص
والآن هل سيفتح هذا الاكتشاف الباب عل مصراعيه من اجل التوصل إلى علاج ناجع لمرض التسمم بالرصاص؟
في هذا الصدد، يقول الباحثان إنهما عازمون على تحضير أحد العوامل الكيميائية القادرة على تخليص الجسم من الرصاص وهو ما يسميانه (بالكلابات) نظرا لأن شكله الذري في الفضاء يشبه كلابات السلطعون . ويقول الباحثان إن مثل هذه العوامل مستخدمة في الطب أصلا إلا انها في أغلب الأحيان ليست انتقائية بدرجة كافية لتخليص الجسم من الرصاص، لأنها تأخذ في طريقها الكاتيونات الفلزية (أيونات الشحنة الموجبة) الضرورية لجسم الإنسان .
ويرى الباحثان أنه في حالة اللجوء إلى العلاج بالطريقة السابقة، فإنه يتوجب على المريض اتباع حمية غنية بالمواد المحتوية على معادن قادرة بدورها على تخليص الجسم من الرصاص بشكل خاص .
أما عن الرهان الذي يسعى الباحثان إلى كسبه، فيتمثل في زيادة خصوصية العوامل الكيميائية (الكلابات) إزاء الرصاص دون الإفراط في استثارة النشاط المدمر للدرع الالكترونية .
ولبلوغ هذا الهدف لا بد من ترك كيمياء الكم جانبا والعودة إلى تجارب المختبرات ليلتقي في النهاية علمي الكيمياء والأحياء .
الرصاص في حياتنا العملية
الرصاص معدن لين مرن لونه أبيض مزرق قابل للتشكل والطرق، وهو موصل ردئ للحرارة ومقاوم للتآكل . وتحتوي خاماته عادة على عناصر الكبريت والزنك والنحاس ومن أهمها وجودا في الطبيعة خام جالينا Gale na الذي يتركب من كبريتيد الرصاص والذي يستخدم في طلاء المرايا، كما يستخدم كصبغة زرقاء .
ويوجد الرصاص في صور أخرى مختلفة منها أكاسيد الرصاص، وتشمل: أول أكسيد الرصاص وهو أكثرها استخداما في صناعات الرصاص غير العضوية وفي تصنيع ألواح البطاريات وصناعة السيراميك والزجاج، وأكسيد الرصاص الأحمر وهو صبغة حمراء لامعة تستخدم في طلاءات المنازل وأسطح المعادن لمنع تآكلها وفي التشحيم وفي صناعة الزجاج والكريستال .
ومن أملاح الرصاص أيضا، كبريتات الرصاص وهي تدخل في صناعة الصبغات الزرقاء والبيضاء، وسليكات الرصاص وتستخدم في الأصباغ وفي صناعة الزجاج والسيراميك والمطاط، وكرومات الرصاص التي تستخدم في الأحبار والصبغات والصناعات الجلدية .
مما سبق يتضح أن الإستخدام الواسع للرصاص ومركباته، تنتج عنها تلوثات كبيرة للبيئة، وحاليا فإن المصدر الأول لتلوث مياه الشرب بالرصاص، يرجع إلى تآكل الوصلات الرصاصية بشبكة المياه، لذا ينصح عند فتح صنابير المياه عدم استخدام الماء المتدفق أولا للشرب أو لتحضير الطعام حيث إن ما يتدفق أولا من مياه الصنبور يحتوي على تركيز مرتفع من الرصاص . ومن مصادر التلوث بالرصاص، تلك الناتجة عن عمليات التعدين والحفر في المناجم وعمليات صهر الرصاص وتصنيعه لعمل مواسير المياه والصرف الصحي والوصلات المختلفة، وكذلك في عمليات اللحام خاصة عند حفظ الأغذية في صفائح أو بالتعليب .
ويدخل الرصاص كذلك في صناعة كثير من الأدوات الصحية وفي كثير من أصباغ الشعر ومساحيق التجميل وأحبار الطباعة وأقلام الرصاص وبعض المبيدات، وأخطرها أصباغ لعب الأطفال .
وقد كانت معظم مود الطلاء في المنازل حتى عام 1960 تحتوي على عنصر الرصاص لكن بعد أن عرفت خطورته على صحة الإنسان تم استبدالها بصبغات أخرى حيث منعت بعض الدول استخدام الرصاص في طلاءات المنازل . ويدخل الرصاص أيضا في تركيب الكثير من الأجهزة المنزلية، كالأجهزة الإلكترونية (تليفزيونات وراديوهات ومسجلات وأجهزة فيديو) حيث يكثر وجوده في لوحات الدوائر الاكترونية وفي الزجاج الرصاصي لشاشات التليفزيون . وجميع هذه الأشياء عندما تستهلك فإنها تلقى في مقالب القمامة وتكون أحد مصادر التلوث بالرصاص .
ومن ملوثات الجو الرئيسة في المدن، رابع ميثيل الرصاص ورابع إيثايل الرصاص اللذان يضافان إلى وقود السيارات منذ حوالي 70 سنة لتحسين كفاءة الوقود في إدارة المحركات .
ويمثل الرصاص الخارج من عوادم السيارات، والذي يكون غالبا على صورة بروميد الرصاص، أكبر ملوث لجو المدن ذات الكثافة العالية في السيارات . ويبقى الرصاص الخارج من العادم عالقا في الجو لمدة طويلة.
وقد اتجهت كثير من الدول إلى استبدال الرصاص الموجود في البنزين بمواد أخرى أقل ضررا على البيئة، وفي الوقت نفسه تحسن أداء البنزين من خلال رفع قيمة الرقم الأوكتيني للبنزين .
ويدخل الرصاص إلى جسم الإنسان عن طريق الجهاز التنفسي مع التنفس والجهاز الهضمي مع الطعام والشراب، ومن خلالهما يصل إلى الدم ويصل بعد ذلك إلى المخ ويترسب في العظام والأسنان وقد يحدث تلفا شديدا للكلى والكبد والمخ والجهاز العصبي المركزي والجهاز العصبي المحيطي .
ويصاحب التسمم بالرصاص حدوث تقلصات في البطن مصحوبة بآلام شديدة وقد يحدث مغص كلوي وصعوبة في التخلص من حمض البوليك والإصابة بالنقرس .
ونظرا لدخول الرصاص في أحبار طباعة الصحف فإنه ينصح بعدم استخدام ورق الصحف في تغليف المواد الغذائية أو في امتصاص الزيت الزائد بعد قلي الخضراوات كما في حالتي البطاطس والباذنجان كما ينصح بغسل الأيدي جيدا بعد قراءة الصحف . من كل ما سبق، يتضح لنا خطورة التلوث بالرصاص وأهمية تنقية الماء والهواء والغذاء من مصادر التلوث به، ويمكن ذلك باستبدال شبكات المياه الرصاصية والوصلات الرصاصية ببدائل آمنة وعدم استخدام الرصاص في لحام صفائح ومعلبات الطعام واستبدال الطلاء المحتوي على الرصاص بمواد أخرى مأمونة ومنع إضافة الرصاص لوقود السيارات . علماً بأن الحد الأقصى المسموح به من الرصاص في مياه الشرب هو 0.50 مللي جرام/ ليتر.